التفاصيل

مئوية الدولة العراقية.. نحو سردية وطنية بديلة / الجزء الثاني

العراق الملكي (1921-1941) دولة وطنية ذات قصور بنيوي

فراس ناجي / سيدني – ج٢ ـــ٤

طرح الجزء الأول من هذه المقالة مفهوم إقليم العراق العثماني كأحد الجوانب الأساسية لسردية وطنية بديلة تهدف لبناء ذاكرة عراقية تاريخية من أجل إعادة التأسيس لهوية وطنية جامعة تساعد في العبور من مرحلة التصارع المكوناتي منذ 2003 الى مرحلة التكامل والتعايش السلمي ،

خاصة مع انبثاق الاحتجاجات الشعبية الشبابية في تشرين الأول 2019. ويكمّل هذا الجزء من المقالة جانب أساسي آخر لهذه السردية الوطنية البديلة.ا

لم يبتعد الملك فيصل الأول كثيرا ًعن الواقع عندما أنكر وجود شعب عراقي بعد في رسالته المشهورة المؤرخة في 1932 والمنشورة في كتاب تاريخ العراق السياسي لعبد الرزاق الحسني، حيث عزا ذلك أساساً الى نقصان العراق «للوحدة الفكرية والملّية والدينية». غير أن ما يغفل عنه المتبنون للمفهوم المكوناتي – وهم غالباً ما يستخدمون هذه الرسالة للدلالة على ترسخ الانقسام العمودي «المكوناتي» في المجتمع العراقي – أن من الطبيعي لأي مجتمع تعددي أن لا تجمعه وحدة فكرية أو إثنية أو دينية. فالدول الاوروبية «المتطورة» حصلت على هذه الوحدة في مجتمعاتها بالدم والنار عبر عقود وقرون من الاحتراب الداخلي والغزو الخارجي والتطهير الديني والعرقي وملايين الضحايا.ا

كما إن المجتمع العراقي في بداية تأسيس دولته كان لا يزال يعاني من تفشي الجهل فيما كانت نخبه المثقفة غير متمرسة بمفاهيم وأمور الدولة الوطنية الحديثة، فلم يكن هناك اتفاق على من يكوّن المجتمع السياسي في العراق وما هو النظام السياسي الأمثل الذي يلائم مجتمعه المتعدد، فيما تحتاج هذه القضايا الاجتماعية المعقدة الى عقود من الزمن لمعالجتها وإنجاز توافق مجتمعي حولها. فعلى سبيل المثال كان القرن الأول من تاريخ الثورة الفرنسية حافلاً بالأحداث والفوضى تقلّب فيه نظام الدولة بين الجمهورية والملكية والامبراطورية عدة مرّات بحيث لم تحكم الجمهورية المجتمع الفرنسي خلاله أكثر من 33 سنة. وكذلك بريطانيا التي – وعلى الرغم من حفاظها على النظام الملكي – استغرق تغير نظام الحكم فيها عدة قرون لتصل الى ما نعرفه اليوم عنها، وحتى الآن لا تزال تواجه التحديات بين انتمائها إلى الاتحاد الأوروبي أو الخروج منه وتداعيات استفتاءات انفصال اسكتلندا.ا

لقد فرض المستعمر البريطاني دولة مركزية على الطراز الغربي على مقياس مصالحه في العراق، فحصل الملك على صلاحيات واسعة من ضمنها حل مجلس النواب وإقالة الحكومة لقطع الطريق على المعارضة، بينما حصل رئيس الوزراء على قوة مركزية تنفيذية كبيرة للتمكن من تنفيذ السياسة البريطانية في العراق. وأوكلت بريطانيا الى «الافندية» – وهم النخبة العراقية المثقفة من الموظفين والضباط والتي كانت تعتمد عليهم الدولة العثمانية في حكم العراق – المناصب الأساسية في الدولة العراقية وجهازها الإداري. كما ملّكت رؤساء العشائر – وغالبتهم من الشيعة والكرد – الأراضي وحولتهم الى إقطاعيين ووسطاء للسلطة على الريف عبر سن قانونهم الخاص، فلا تُطبق قوانين الدولة العراقية على إقطاعياتهم، فكانت العوائل الشيعية تمثل 44% من العائلات الرئيسية المالكة للأرض في العهد الملكي فيما مثلت العوائل الكردية 20% منها.ا

وفيما كان المجتمع السياسي العراقي حينها – والذي كان يتشكل من الأفندية ورؤساء العشائر والملك – منقسماً أفقياً بصورة عابرة للعصبيات الطائفية أو القبلية والاثنية، بين الوطنيين المطالبين باستقلال العراق الكامل عن بريطانيا وما بين المتعاونين معها باعتبارها المسيطرة على الوضع في العراق، إلا أن ذلك لا يعني نضوج العملية السياسية حينها، حيث كان معظم السياسيين يتبادلون الأدوار فيما بينهم، فكانوا يطالبون باستقلال العراق الكامل في المعارضة ويغضون عنه الطرف عندما يكونوا في الحكومة. أما الملك فيصل الأول فكان دائماً ما يحاول التوفيق ما بين الطرفين.ا

لقد تحوّلت محاور السياسة والسلطة في العراق مع تأسيس الدولة المركزية من منظوماتها التقليدية الدينية والعشائرية والأثنية الى العاصمة بغداد ما أدى الى الصدام بينهما وبالتالي الى إضعاف هذه المنظومات بسبب الدعم البريطاني للدولة العراقية. فقامت الحكومة العراقية وبدعم من قادة العشائر الشيعية بنفي المرجع الشيعي الأعلى الشيخ محمد مهدي الخالصي وعدد كبير من المراجع الشيعية الى إيران، من دون احتجاجات تذكر في 1923 بسبب إصدارهم فتاوى بتحريم المشاركة في إنتخابات المجلس التأسيسي. كما قامت ثورات قومية كردية بقيادة الشيخ محمود البرزنجي طوال العشرينيات وبقيادة الشيخ أحمد البارزاني في 1931/1932. كذلك تمردَ الآشوريون ضد الدولة للمطالبة بحقهم في تقرير المصير في 1933، كما تمردت العشائر الشيعية في جنوبي العراق وبدعم من المرجعية في 1935/1936 للمطالبة بتعزيز تمثيل الشيعة في الدولة. غير أن الجيش العراقي وبدعم بريطاني استطاع القضاء على جميع هذه التحديات ولو بصورة لم تخلُ من الفظائع والقمع الوحشي.ا

كانت الدولة العراقية عند تأسيسها قد تبنت هوية عربية أحادية لتعزيز شرعية الملك فيصل الآتي من الحجاز، وعملت على تحقيقها بواسطة مركزية التعليم الحكومي الذي توّلاه طوال العشرينات المنظّر العروبي ساطع الحصري كمدير للمعارف، وكذلك عن طريق الجيش الذي سيطر عليه العروبيون في الثلاثينيات وتوسع كثيراً عبر التجنيد الإلزامي. إلا أن هذا كان لا يتماشى مع تعددية المجتمع العراقي وخاصة الكرد الذين كانوا يتمتعون بحكم ذاتي لمعظم العهد العثماني في إماراتهم مثل بابان وسوران وبهدينان وتصاعدَ شعورهم القومي كما العرب بعد الحرب العالمية الأولى.ا

على الرغم من ذلك، فقد كان الملك فيصل الأول يسعى الى الحفاظ على علاقات جيدة مع مختلف أطياف العراقيين، مثل موقفه حول الحادثة بين ساطع الحصري وشاعر العراق محمد مهدي الجواهري حين أصّر الحصري على فصل الجواهري الذي كان مدرساً في مدرسة حكومية عراقية نتيجة أبيات شعر تغنّى فيها الجواهري بمناظر إيران الطبيعية، فتدخل الملك فيصل واستوظف الجواهري في ديوانه الملكي.ا

لقد حافظ الملك فيصل أيضاً على علاقة جيدة مع الكرد فسمح لعدد من المدارس بتدريس اللغة الكردية، وأشار رسمياً بأن النجمتين في العلم العراقي الملكي «هما رمزان للشعبين العربي والكردي – الشعبين الرئيسيين في العراق». كما كان الكرد ممثلين بقوة في الجيش العراقي ولهم واجهاتهم السياسية والثقافية والاجتماعية، وكانوا ممثلين في الحكومات المتعاقبة – ولو بصورة محدودة – ولهم نشاط ملموس في البرلمان العراقي والوسط الثقافي خاصة في بغداد. فقد كان معروف جياووك النائب في البرلمان العراقي في 1928 يكتب في الصحافة العراقية في العشرينيات للدفاع عن القضية الكردية وعدم اعتبار الكرد أقلية في العراق، كما كان يؤكد في كتاباته بأن ولاية الموصل ومن ضمنها كردستان العراق هي جزء من العراق.ا

وكذلك أصبح محمد أمين زكي، الضابط في الجيش العثماني، آمراً للكلية العسكرية العراقية وبعدها نائباً بالبرلمان ثم وزيراً لحكومات متعاقبة منذ 1925، وألف كتباً عديدة مثل خلاصة تاريخ الكرد وكردستان، ومشاهير الكرد وكردستان. فيما كان إبراهيم أحمد ناشطاً في الوسط السياسي خاصة مع اليساريين وأصدر كتاب الأكراد والعرب في 1937 داعياً الى الاعتراف المبدئي لكل شعب للآخر بحقه في الاستقلال، لكنه في الوقت نفسه دعا «لتوثيق روابط الإخوة والصداقة بين العناصر العراقية المختلفة ومحاربة كل ما يشم منه رائحة التفرقة» في الدولة العراقية. أما اجتماعياً فقد أسس الكرد في بغداد نادي الارتقاء الكردي في 1930 الذي أصبح واجهة الكرد الثقافية في العاصمة بغداد، وكذلك حلقة الوصل مع النشاطات السياسية الداخلية والخارجية.ا

لقد حقق الملك فيصل الأول بحنكته السياسية ووسطيته توازناً إيجابياً بين القوى المؤثرة على المشهد العراقي بحيث حافظ على انفتاح وتعددية المجتمع العراقي من جهة وتحديث مؤسسات الدولة التي ورثها من العثمانيين من جهة أخرى. ولعل شاعر العراق محمد صدقي الزهاوي اختصر هوية العراق الجامعة المنفتحة والتواقة للتحرر في العشرينيات في قصيدة نُشرت في جريدة الاستقلال:ا

إن العراق لمنجب شعباً له مجد تليد / فرحت بوحدته السعيدة في مراقدها الجدود

المسلمون على وفاق والنصارى واليهود / تأبى سلالة يعرب عن أن تفرقها الحقود

عار عليها أن تثبط من عزائمها السدود / ومن المذلة أنها يوماً تساد ولا تسود

فقد تمكن الملك فيصل والنخبة السياسية العراقية من تطوير بنية حديثة لمرافق الدولة وبناء جيش وطني حديث وتقديم خدمات غير مسبوقة للشعب العراقي وبدعم مباشر من البريطانيين، بحيث كان العراقيون يديرون معظم مؤسسات الدولة عند انتهاء الإنتداب البريطاني في 1932. كما دعمت بريطانيا النظام الملكي العراقي عبر ردع التهديدات الخارجية مثل تركيا التي حاولت ضم الموصل اليها وكذلك الوهابيين الذين هددوا المدن الشيعية المقدسة.

غير أن الملك غازي الذي تبوأ العرش الهاشمي في العراق بعد وفاة والده فيصل الأول في 1933 كان شاباً وقليل الخبرة، فاستغل العسكر قوة الجيش العراقي وصعود أنظمة عسكرية دكتاتورية في تركيا وايران في الثلاثينيات للتدخل في سياسة الدولة وتنفيذ انقلابات عسكرية للسيطرة على السلطة. وقد تصاحب هذا مع رواج الأفكار الأيديولوجية اليسارية والفاشية في العالم والتي انعكست على المشهد السياسي العراقي وخاصة في العاصمة بغداد التي بدأ مجتمعها المدني بالتوسع مع تعزيز سلطة الدولة وانحسار تأثير المنظومات الاجتماعية التقليدية.ا

بدأ صراع الأيديولوجيات بين القوى السياسية العراقية في العاصمة بغداد ما بين اليساريين العراقويين الممثلين بالشيوعيين وجماعة الأهالي الذين عدّوا أن العراقيين يشكلون أمة بحد ذاتها مع التركيز على التضامن العالمي من أجل العدالة الاجتماعية، على الضد من العروبيين مثل ساطع الحصري ونادي المثنى وجمعية الجوال العربي والذين كان العراق لهم هو جزء من الأمة العربية التي لا يمكن أن تنهض إلا بوحدتها. ثم تصّدر هذا الصراع المشهد السياسي العراقي مع دخول العسكر كأطراف فيه، حيث اصطف قائد الجيش بكر صدقي مع العراقويين في انقلاب 1936، لكن العروبيين سيطروا على الدولة عبر ضباط الجيش المعروفين بالمربع الذهبي عقب القضاء على حكومة انقلاب بكر صدقي في 1937، حيث كانوا أكثر هيمنة على مفاصل الدولة والجيش والمجتمع المدني في بغداد.ا

وأدى تداخل المد العروبي في العراق مع المد العالمي لصعود الفاشية الوطنية وعسكرة المجتمع في الثلاثينيات إلى تفشي النزعة العروبية المتطرفة، فرأى سامي شوكت – وهو أحد قادة التيار العروبي حينها – أن سبيل نهوض الأمة العربية هو في «اتقان صناعة الموت» والقضاء على أعدائها الداخليين من غير العرب «بإستئصال جذورهم بلا شفقة ومن دون أية رحمة»، في حين لم يرَ أية فرصة للأمم الصغيرة في الاحتفاظ بثقافتهم أمام قدرة الأمة العربية في «هضم وتمثيل العنصريات والقوميات التي تسيطر عليها».ا

لكن سيطرة التيار العروبي على السلطة في العراق حينها لم تستمر طويلاً بعد بدأ الحرب العالمية الثانية، حيث غزت بريطانيا العراق حين شعرت بتهديد مصالحها فيه بسبب تعاون حكومة الدفاع الوطني برئاسة رشيد عالي الكيلاني مع ألمانيا على الرغم من المقاومة الشعبية للغزو، وبالتالي أعادت الدبابات البريطانية الوصي عبدالإله ونوري السعيد الى سدة الحكم بعد أن هربا عقب تشكيل حكومة الدفاع الوطني.ا

لقد أدت هذه التطورات الى إلصاق وصمة التآمر على استقلال الوطن والعمالة للأجنبي بعبدالإله ونوري السعيد وعلى كامل النظام الملكي الذي سيطرا عليه، حيث استمر هذا القصور في شرعية النظام أمام مجاميع العراقيين وخاصة الشباب الثوري طوال حقبة الاربعينيات والخمسينيات. وعلى الرغم من صعوبة التوافق والتعاون بين الأحزاب والقوى السياسية المعارضة للنظام الملكي بسبب التباين الأيديولوجي فيما بينها، إلا أن هذه القوى المعارضة تمكنت من التحالف سياسياً والتنسيق مع الجيش العراقي في اسقاط النظام الملكي في ثورة 14 تموز 1958 والتي أنجزت استقلال العراق الكامل وتحرره من القوى الغربية التي سيطرت عليه منذ 1917، كما سيتم التطرق اليه في الأجزاء القادمة من هذه المقالة.ا

Facebook
Twitter