فراس ناجي / سيدنتي
تناولت الأجزاء السابقة من هذه المقالة نشوء إقليم العراق العثماني وتأسيس الدولة العراقية ثم النظام الملكي حتى سقوطه على يد تحالف الحركة الوطنية العراقية مع الضباط الأحرار في 1958 كجوانب أساسية لسردية وطنية بديلة.ا
تهدف هذه السردية لبناء الذاكرة العراقية التاريخية من أجل إعادة التأسيس لهوية وطنية جامعة تساعد في العبور من مرحلة التصارع المكوناتي منذ 2003 الى مرحلة التكامل والتعايش السلمي، خاصة مع انبثاق الاحتجاجات الشعبية الشبابية في تشرين الأول 2019. ويكمّل هذا الجزء الأخير من المقالة جانباً أساسياً آخر لهذه السردية الوطنية البديلة.ا
العراق الجمهوري، رؤية وطنية مهيمنة لكن بشرعية قاصرة
لا نحتاج الى الدخول في تفاصيل الأحداث المعروفة حول تصاعد الصراع بعد أيام قلائل من انتصار الثورة ما بين القوى السياسية المؤلفة لجبهة الاتحاد الوطني وكذلك ما بين الضباط الاحرار أنفسهم، بحيث استمر هذا الصراع المحتدم وتبادل السيطرة على السلطة طوال العقدين الأولين بعد الثورة، لينتهي الى الحكم الفردي بعد 1979 وبالتالي الى تأسيس نظام المحاصصة المكوناتي الحالي على يد الغزو الأميركي في 2003.ا
لكن ما ينبغي أن نتناوله هنا هو تقييم ما انجزته عملية التغيير نحو النظام الجمهوري وهل كان لهذا النظام مقومات النجاح أم كان محكوماً بالفشل لخلل بنيوي فيه كما فشل النظام السياسي الملكي الذي فرضته بريطانيا عند تأسيس الدولة العراقية؟
كان الدعم الشعبي الواسع للنظام الجمهوري واضحاً في صبيحة يوم الثورة على عكس التخلي عن النظام السابق حتى من قبل حرسه الملكي، حيث يمكن اعتبار ذلك من أهم مقومات النجاح للنظام الجديد والذي وفرته له أحزاب جبهة الاتحاد الوطني، كذلك لم يختطف الضباط الانقلابيون الثورة مثلما فعل مرادفيهم في مصر عبر تأسيس مجلس عسكري لقيادة الثورة كأعلى سلطة في النظام الجديد، بل أبقت ثورة تموز على هيكلية حكومية ضمن الدولة العراقية تتألف من مجلس الوزراء بصلاحيات تشريعية وتنفيذية ومجلس الحكم للمصادقة على التشريعات الجديدة. وعلى الرغم من تركز السلطة في يد رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة (عبد الكريم قاسم)، فقد كانت الأغلبية العظمى لمجلس الوزراء من السياسيين أو التكنوقراط والمرتبطين بقوة بأحزاب الجبهة، خاصة في الأشهر الأولى من العهد الجديد.ا
هناك دلائل عديدة على أن دعم أحزاب جبهة الاتحاد الوطني للعهد الجمهوري الناشئ وبرنامجه الوطني – الذي كان يستند على برنامج الجبهة نفسها – لم يكن انتهازياً أو ظرفياً، بل كان مبدئياً ويمثل الرؤية السياسية التي هيمنت على معظم العهد الجمهوري وخاصة العقدين الاولين منه، فجميع أحزاب الجبهة كالحزب الشيوعي والحزب الوطني الديمقراطي وحزب الاستقلال وحزب البعث والحزب الديمقراطي الكردستاني كانت قد تبنت ميثاق الجبهة في آب 1958 الذي تضمن أن العراق جزء من الأمة العربية التي تسعى للوحدة القومية، والشراكة العربية-الكردية في الوطن والاقرار بالحقوق القومية لكرد العراق، بالإضافة الى المبادئ الأخرى في البرنامج الوطني الذي سارت عليه حكومة الثورة.ا
لقد أكّد الشيوعيون عبر عامر عبد الله – أحد قيادييهم في ذلك الوقت – أن مسيرة الدول العربية نحو الوحدة هي حركة تاريخية ناشئة من “وجود الخصائص القومية الأصيلة للأمة الواحدة”، وأن قضية توحيد الأمة العربية ليست حكراً لأيديولوجية أو حزب معين بل هي “حركة كل الطبقات والفئات والأحزاب في الوطن العربي الكبير”. ومن اللافت أن ذلك كان بعد تصاعد النزاع بين الشيوعيين والعروبيين حول الاتحاد الفوري مع الجمهورية العربية المتحدة وتحوله الى أزمة سياسية عميقة بعد الحكم بالإعدام على عبد السلام عارف في شباط 1959. وفي نفس الوقت لم يكن جميع العروبيين مساندين لفكرة الاتحاد الفوري مع العربية المتحدة التي تبناها حزب البعث بقوة، فكتب عبد الرحمن البزاز يدافع عن فكرة الاتحاد الفيدرالي العربي وليس الوحدة الاندماجية الكاملة.ا
أما القوميون الكرد، فقد شدّدوا على “عدم وجود أي تيار إنفصالي في صفوف الحركة القومية الكردية بقدر ما يتعلق الأمر بعراقنا العزيز”، وإن الإنفصال عن العراق “حركة إجرامية” تهدد بأشد العواقب المصالح الحقيقية للشعبين الكردي والعربي وأهدافهما المشتركة في التحرر والانعتاق. كذلك لم يكونوا معارضين لفكرة الوحدة مع العربية المتحدة بصورة مبدئية، بل اقترحوا أن تكون كردستان العراق عضواً فيدرالياً في أي وحدة اندماجية أو تتمتع بالحكم الذاتي إذا كان الاتحاد فيدرالياً.ا
لقد تأكد هذا الاجماع المبدئي بين القوى السياسية للجبهة حول البرنامج الوطني الجمهوري حتى بعد سقوط الجمهورية الأولى وتولي العروبيين زمام السلطة في الجمهوريات التالية. فقد أعلن علي صالح السعدي – زعيم حزب البعث ووزير الداخلية بعد انقلاب شباط 1963 – أن هناك علاقة تاريخية طويلة “للشعب العراقي المؤلف من العرب والأكراد”، وأشار إلى أنه “لا يمكن إلا أن نؤمن بحرية تقرير المصير الذي يعطي الحق لكل شعب مستكمل شروطه القومية أن يوحد ذاته”. ودخل جلال طالباني كممثل للكرد في الوفد العراقي للمفاوضات حول مشروع الوحدة الثلاثية مع مصر وسوريا في نيسان 1963.ا
لقد اعترفت جميع الدساتير العراقية المؤقتة للجمهورية العراقية بالحقوق القومية لكرد العراق ضمن الوحدة العراقية، فيما أصدر نظام البعث في 1970 بيان آذار الذي عدّ عيد النوروز عيداً وطنياً، وجعل اللغة الكردية لغة التعليم ولغة رسمية مع اللغة العربية في المناطق الكردية، واتخاذ الإجراءات اللازمة لتطبيق الحكم الذاتي فيها.ا
وعلى الرغم من الحملات العسكرية لقمع التمردات المتلاحقة للقوميين الكرد منذ 1961 وعدم جدية اجراءات الحكومات الجمهورية المتعاقبة في تلبية استحقاقات الكرد القومية، وفي نفس الوقت عدم الجدية في السعي للوحدة العربية، إلا أن هذا الاجماع المبدئي لقوى الجبهة على مفهوم الشراكة في الوطن وأحقية استحقاقات الكرد والعرب القومية كان يمثل ثقافة مهيمنة بالمفهوم الغرامشي (نسبة الى المفكر الإيطالي الماركسي غرامشي) في الفضاء الوطني العراقي بحيث لم يستطع أي من هذه القوى التجاوز عليه. ولم يقتصر هذا الاجماع السياسي المبدئي على موضوع الشراكة في الوطن بين الكرد والعرب بل تعداه أيضاً الى موضوعات تعزيز بناء الدولة والإصلاح الزراعي والتحول نحو الاشتراكية وحقوق المرأة وسياسة التحرر الوطني والحياد الإيجابي، حيث تبين ذلك في فترات التقارب بين هذه القوى في الجبهة الوطنية والقومية التقدمية 1973 -1978.ا
لم يكن الخلاف (الدامي) بين قوى جبهة الاتحاد الوطني المساندة للنظام الجمهوري العراقي مبدئياً أو أيديولوجياً كما يحاجج البعض، بل كان صراعاً سياسياً حزبياً وفئوياً على الزعامة واحتكار السلطة من قبل قوى سياسية إدعّت إمتلاكها للشرعية الثورية وحق الوصاية على النظام. فقد نصّب عبد الكريم قاسم نفسه كرئيس وزراء الجمهورية والقائد العام للقوات المسلحة عبر انقلاب عسكري وظل يحكم في ظل الأحكام العرفية، كذلك نصّب جميع قادة الحكم الجمهوري بعده لغاية 2003 أنفسهم كرؤساء لمجلس قيادة الثورة – وهو مؤسسة مغلقة وغير شرعية – عبر انقلابات عسكرية أو بالتخلص من منافسيهم ضمن المجموعة الحاكمة.ا
وعلى الرغم من الاستقطاب السياسي والانقسام المجتمعي في تلك الفترة، إلا أن الانقسام العمودي القومي أو الطائفي في المجتمع العراقي كان قد انحسر الى الهامش بعد تأسيس الجمهورية بدلالة أن الأحزاب المؤثرة في العملية السياسية كانت عابرة للقومية والدين والطائفة، بينما كانت الحركات الدينية أو الطائفية – مثل الحزب الإسلامي (الإخوان المسلمين) وحزب الدعوة الإسلامية اللذان تأسسا في نفس تلك الفترة – لها تأثير هامشي على المجتمع وأثر ضعيف على الخطاب الوطني.ا
لكن السقوط الصادم للقومية العربية في حرب 1967 وصعود تأثير الدين إقليمياً عبر الثورة الإيرانية في 1979 وحركة الجهاد في أفغانستان، وكذلك تزايد القمع السياسي وتراجع سلطة الدولة وتدهور المجتمع المدني في فترة الحرب العراقية الإيرانية، كل هذا أدى إلى تصاعد التأثير الديني والطائفي في المجتمع العراقي وهبوط تأثير القوى السياسية العلمانية. لقد اضطر نظام صدام حسين – الذي كان قد بدأ في التخلي عن خطابه العروبي العلماني منذ عقد الثمانينيات – إلى مسايرة صعود المد الديني في أنحاء العراق من خلال حملته الايمانية لاحتواء هذا المد عبر دمج المؤسسات الدينية بمؤسسات نظامه الاستبدادية ومن ثم الاستحواذ على شرعيتها المقبولة عند المجتمع.ا
غير أن هذه الإجراءات والمنظومات تدمّرت بفعل الحرب في 2003 ما مكّن القوى والحركات الدينية الشيعية والسنية الفاعلة على الأرض أن تملأ هذا الفراغ، ليتصدر الدين والطائفة الخطاب الوطني العراقي بعد 2003، خاصة مع ترسخ نظام المحاصصة المكوناتي الذي أسسه الاحتلال الأميركي بعد سقوط نظام صدام حسين.ا
خاتمة
تمثل هذه السردية الوطنية البديلة حكاية المسيرة التاريخية للعراقيين الذين يحملون الإرث الغني لبلاد وادي الرافدين باتجاه الدخول في العصر الحديث وتأسيس دولتهم المعاصرة وبناء مجتمعهم التعددي وبالتالي تحقيق الاستقرار المنشود للتنمية والازدهار. وقد أظهرت هذه المقالة – بأجزائها الأربعة- أن العراق هو وطن متكون بالفعل لشعب عريق متعدد ومتعايش، وذلك عبر التركيز على الإنتاج الثقافي للمجتمع العراقي والقوى الفاعلة في هذا المجتمع، عوضاً عن التناول التقليدي لتاريخ الدولة العراقية الذي غالباً ما يغفل القوى المجتمعية ويركز على تأثير القوى الخارجية والزعماء المستبدين.ا
يمكن استشفاف ثلاث ثيمات رئيسة في هذه السردية:ا
أولاً، إن إقليم العراق العثماني كان قد مثّل العمق الجغرافي والتاريخي لمفهوم العراق الحديث الذي شكّل الأساس للدولة العراقية، بحيث كان لتطور الوعي السياسي والوطني للعراقيين قبل الاحتلال البريطاني أثره الكبير في تسارع تحديث المجتمع ونضوج مؤسسات الدولة العراقية بعد تأسيسها.ا
وثانيا،ً إن الشعب العراقي مجبول على مواصلة التحرر الوطني من الغزاة وسيطرة القوى الخارجية، حيث كان ذلك عبر حركة الجهاد في 1914 وثورة العشرين ثم انهاء الانتداب البريطاني، فمقاومة الغزو البريطاني الثاني، ثم الى سلسلة الاحتجاجات الشعبية بعد الحرب العالمية الثانية حتى أنجزت ثورة 14 تموز هذا الاستحقاق الوطني في 1958. فيما أدّى التصارع على السلطة والحكم الفردي الى تقويض سيادة الدولة العراقية وما نشهده اليوم من تداعيات.ا
وثالثاً، إن ثقافة التعايش متأصلة في المجتمع العراقي ما دفع بقواه المجتمعية الى محاولة تأسيس نظام سياسي مبني على أساس الشراكة في الوطن كبديل عن النظام الأحادي الذي فرضه المستعمر البريطاني عند تأسيس الدولة العراقية، وذلك عبر توافق القوى الفاعلة في المجتمع العراقي على تطوير رؤية سياسية مشتركة ثم تحويل هذه الرؤية الى وعي جمعي للجماهير العريضة في المجتمع من خلال العمل الثقافي والفكري. لقد أنجزت الحقبة الجمهورية خلال عقديها الأولين عبر هذه الرؤية السياسية المشتركة دولة مؤسساتية ذات سيادة وجيش قوي، قادرة على فرض القانون وتطوير الخدمات لمجتمعها وحماية استقلالها. غير أن القصور في شرعية المجتمع السياسي للنظام الجمهوري بعد ثورة تموز 1958 واستمرار احتكار السلطة من قبل حزب البعث ممثلاً بمجلس قيادة الثورة مع قمع المعارضين، أدّى الى ما نعرفه من المآسي والكوارث التي دفع ثمنها العراقيون جميعاً.ا
ومن الدروس المهمة التي يمكن استخلاصها من هذه السردية لدعم عملية التغيير السياسي التي تتولاها حالياً ثورة تشرين هو بناء برنامج وطني مشترك يستند على التفاعل الفكري والثقافي فيما بين القوى الوطنية الداعمة للثورة، وكذلك إصلاح المجتمع السياسي للدولة لتمثيل قوى المجتمع الفاعلة الحقيقية والحريصة على النهوض بالوطن بدلاً من أحزاب الفساد والعمالة للأجنبي المسيطرة حالياً على التمثيل البرلماني.ا
إن هذه السردية الوطنية هي إحدى الحكايات الجماعية للعراقيين والتي تحتاج الى مدّها بالتفاصيل وتطعيمها بكتابة الحكايات الشخصية المكملة لها وإضافة أبعاد ملحمية وحتى أسطورية اليها لتشكل ذاكرة جمعية للأجيال القادمة عن الشعب العراقي التعددي والأصيل. وهنا نستذكر كلمات الشاعر الكبير محمود درويش “من يكتب حكايته يرث أرض الكلام، ويملك المعنى تماماً”، حيث يمكن أن ندرك دورنا كمجتمع ثقافي بمفكريه وأدبائه وباحثيه في بناء رؤيتنا الوطنية لتعزيز الروابط بين مجتمعنا ووحدتنا الوطنية وانتماءنا الى أرضنا. ويمكن لنا في هذا السياق أن نشير إلى رواد الثقافة العراقية مثل محمود أحمد السيد الذي كان حسّه الوطني لافتاً في بناء سرديتنا الوطنية منذ 1922 في روايته “مصير الضعفاء”، فشخصياتها دارت في مدن العراق المختلفة: بغداد والبصرة والنجف حتى التقوا في سجن في الموصل بسبب ظلم الحاكم التركي الذي كان يضطهد العراقيين ويحرمهم من ممارسة حقوقهم الوطنية.ا