التفاصيل

مئوية الدولة العراقية .. نحو سردية وطنية بديلة / الجزء الأول

فراس ناجي / سيدني ـــ الجزء الأول ــــ٤

عندما أزالت جرافات داعش الساتر الترابي بين الحدود السورية والعراقية في حزيران 2014 معلنة انهاء “حقبة سايكس بيكو”، كان العراق هو مركز الحدث في المنطقة التي كانت تسير حثيثاً باتجاه “الشرق الأوسط الجديد” الحافل بالتقسيم والانفصالات على أسس هوياتية “مكوناتية”.ا

وعلى الرغم من هزيمة داعش وعدم نجاح مشاريع الانفصال والتقسيم في العراق، إلا أننا لا نزال نعيش تداعيات شيوع المنظور المكوناتي للمجتمع العراقي منذ 2003 والذي يرى بأن العراق هو دولة مصطنعة أقامها المستعمر البريطاني لخدمة مصالحه وجمع فيها مجتمعات متباينة: الشيعة والسنّة والكرد من الصعب تعايشهم في دولة وطنية حديثة ذات هوية جامعة. وفي حين تمر في هذه السنة الذكرى المئوية لتأسيس الدولة العراقية، لا يزال النظام السياسي العراقي يعاني من عدم الاستقرار المزمن والذي يعود – حسب المنظور المكوناتي – الى صراع الهويات الناتج عن الإنقسام الطائفي والإثني “المتأصل” في المجتمع العراقي.ا

لكن انبثاق الاحتجاجات الشعبية الشبابية في تشرين الأول 2019 أظهرت حالة الأفول في سيادة المفهوم المكوناتي في المجتمع العراقي والتصاعد لمفهوم وطني بديل حملته رايات الحركة الاحتجاجية يستند على محاربة المحاصصة الطائفية وتحقيق دولة المواطنة السيادية والمستقلة عن النفوذ الأجنبي مع هوية وطنية جامعة عابرة للانتماءات الفرعية وتعتز بالعراق وطناً أصيلاً للعيش المشترك. غير أن هكذا هوية تحتاج الى سردية وطنية تستند على ذاكرة تاريخية جامعة تعمل على إعادة تشكيل الوعي الوطني العراقي باتجاه التعايش والتكامل، وتعزيز الشعور الوطني نحو تثبيت السلم الأهلي وتدعيم الوحدة الوطنية.ا

حالياً، لا يوجد إجماع مجتمعي على سردية وطنية تاريخية يمكن أن تؤسس لهوية وطنية جامعة أو توفر الأرضية للتوافق الاجتماعي والسياسي. فمضامين السردية الوطنية للدولة العراقية تشتتتْ بتغير الأنظمة الحاكمة. فسردية العهد الملكي تمحورت حول الثورة العربية في الحجاز التي قادها الشريف الحسين بن علي والد الملك فيصل الأول، فيما ركزت سردية الحكم الجمهوري على نضال الشعب العراقي ضد الاحتلال البريطاني والمتعاونين معه، ثم بعد ذلك تأثرت بالإطار الأيديولوجي العروبي، خاصة بعد مشروع “إعادة كتابة التاريخ” الذي قاده صدام حسين في سبعينيات القرن الماضي. فيما تتعارض السردية القومية الكردية جذرياً مع السردية الوطنية لمجمل العراق، فهي تتمحور حول “خيانة” المجتمع الدولي للكرد بعد وعدهم بالدولة الكردية في معاهدة سيفر 1920، حيث تم إلحاق كردستان العراق بالدولة العراقية الجديدة في 1926 كجزء من تنكر الحلفاء لإلتزاماتهم السابقة.ا

أمّا السردية الوطنية العراقية الجامعة التي أحاول التأسيس لها هنا، فهي تستند على قراءة بديلة للتاريخ العراقي الحديث عبر التركيز على أعمال ونشاطات المجتمع العراقي الثقافية والسياسية التي تعكس توجهات مجموع العراقيين نحو المساهمة في بناء دولتهم الوطنية، بدرجة أكبر بكثير مما تعكسه تصرفات فاعلين منفردين أو إجراءات لحكومات منعزلة عن مجتمعها، وهو ما يركز عليه المنظور المكوناتي.ا

إن هذه السردية الوطنية البديلة وإستخدامها لبناء الذاكرة العراقية التاريخية، تعمل على إعادة التأسيس لهوية وطنية عراقية جامعة تساعد في عملية العبور من مرحلة التصارع المكوناتي الى مرحلة التكامل والتعايش السلمي، وكذلك أيضاً للتواصل مع هذه الذاكرة التاريخية الغنية والبناء على النجاحات فيها وأخذ الدروس من إخفاقاتها.ا

العراق العثماني كيان وطني لمجتمع تعددي

يعود تاريخ العراق بمفهومه الحديث الى حوالي 170 سنة قبل تأسيس الدولة العراقية على الضد من ادعاء المفهوم المكوناتي من أن العراق كما نعرفه الآن لم يكن معروفاً قبل الاحتلال البريطاني. فقد استطاع المماليك أن يفرضوا إرادتهم على سلاطين اسطنبول ويتسلموا الحكم في بغداد التي أصبحت مركز إقليم العراق المتميز جغرافياً وسياسياً عن بقية أقاليم الدولة العثمانية بحيث كان والي بغداد والملقب بالوزير تصل سلطته الى ولايتي الموصل والبصرة وإمارة بابان الكردية (كردستان العراق).ا

وكان هذا حدثاً فارقاً بالنسبة للعراقيين التواقين إلى أن يحكموا أنفسهم ذاتياً بسبب أن المماليك الذين نشأوا في بغداد كانوا يعدّون أنفسهم من أهل البلد ويتعصبون لأبناء محلاتهم. كما كان للزعماء العراقيين ورؤساء عشائرهم دور كبير في حسم التنافس بين المماليك على السلطة. فتداول مؤرخو العراق في ذلك الزمان مثل الشيخ رسول الكركوكلي والشيخ عثمان بن سند البصري سيرة وزراء العراق وقصص “بطولاتهم” في كسر شوكة العشائر والمتمردين وإشاعة الاستقرار في ربوع العراق.ا

بعد زوال حكم المماليك في 1831 حكمت العراق بصورة لا مركزية نخب من مختلف أنحائه ارتبطت بالحكومة العثمانية في بغداد وتلقت منها توجيهات وأوامر الحكم ما أدى الى ترسخ هوية العراق المحلية. فقد وصف المؤرخ والسياسي سليمان فائق بيك في كتابه “تاريخ بغداد” من يدير دفة الحكم في انحاء “العراق” في الستينيات من القرن التاسع عشر، بانها “أسر عراقية” مثل آل بابان في السليمانية وآل عبد الجليل في الموصل وأبناء العمادية وآل شبيب (أصبحوا يعرفون لاحقاً آل سعدون) في المنتفق (والذي يتضمن معظم جنوب العراق). وهذا طبعاً يشير بصورة كبيرة إلى أن مفهوم العراق الجغرافي والسياسي في تلك الحقبة كان قريباً جداً من مفهومه الحديث.ا

ولم يقتصر الشعور بالهوية العراقية في ذلك الزمان على الأسر الحاكمة وزعماء العراقيين، بل تعداه الى مثقفي ذلك الزمان، حيث وصف أبو الثناء الالوسي شعوره عندما وصلته رسالة من العراق وهو في سفره الى اسطنبول:ا

أهيم بآثار العراق وذكره / وتغدو عيوني من مسرتها عبر

وألثم أخفافاً وطئن ترابه / وأكحل أجفاناً بتربته العطرى

وكذلك رحب المهنئون برجوع الآلوسي الى بغداد به باسم العراق فقالوا:ا

هي عودة سُرّ العراق بها وكم / سُرّ العليل بعوده العُوّاد

وافى بوجه أبيض فانجاب عن / قطر العراق بذاك كلُّ سواد

أما في بداية القرن العشرين فيدل الإنتاج الثقافي للعراقيين حينها على ازدياد توطد علاقتهم بالعراق والإشارة اليه كوطن مشترك مع تطور وعيهم السياسي، فكان نائب السليمانية سعيد أفندي كركوكي زادة يشير الى ناخبيه كعراقيين، حيث نشرت جريدة صدى بابل في 2011 شكوى لسعيد أفندي في مجلس المبعوثان العثماني من مظالم والي العراق ناظم باشا بقوله “اذا دامت الحالة على هذا المنوال ينتهي أمر العراقي الى ما لا تحمد عقباه”.ا

كانت مجلة لغة العرب لصاحبها الأب أنستاس الكرملي والتي عمل فيها مثقفون عراقيون من مختلف الأطياف، متميزة بانتمائها العراقي، فقد عكس مقالها الافتتاحي في 1911 خطاب وطني عراقي حداثي، حيث أشار الى الغاية من انشاء المجلة هي “ان نعرّف العراق وأهله ومشاهيره” … و”ننقل الى وطنيينا العراقيين” … و”ليدخل العراق في مصاف الربوع المعروفة بين الأمم المتمدنة المتحضرة”. وكان لها قسم ثابت في كل عدد بعنوان “تاريخ وقائع الشهر في العراق وما جاوره”. كما تضمنت المجلة مقالات عرّفت العراقيين بتاريخهم الحديث عن فترة المماليك وبتاريخهم القديم عن العباسيين والكلدانيين وبآثار بلادهم الشاخصة مثل سامراء وبابل ودعتهم الى اللحاق بمجد أجدادهم.ا

لقد تطورت تجربة العراقيين السياسية خاصة بعد الدستور العثماني في 1908، حيث مثل ولايات العراق عدد متزايد من النواب ومن مختلف أطياف المجتمع العراقي وصل الى 31 نائب في مجلس 1914، كما أسس طالب النقيب حزب الجمعية الإصلاحية في البصرة في 1913 الذي إرتبط به النادي الوطني العلمي في بغداد فكانت مطالبهم تتضمن الحكم الذاتي للعراق وتشجيع اللغة العربية فيه.

كذلك حافظ المجتمع العراقي مع تطوره السياسي على تنوعه الديني والطائفي وانفتاحه تجاه مختلف الثقافات، فكان أحد نواب بغداد الثلاثة في مجلس المبعوثان العثماني في 1877 من الطائفة اليهودية هو مناحيم دانيال. وفي حين تم تكفير البابية والبهائية وارتكاب المجازر بحقهم في طهران وأنحاء ايران، إنفتح المجتمع العراقي في كربلاء وبغداد عليهم، ولم يقبل المرجع الشيعي الأعلى في النجف (الشيخ مرتضى الأنصاري) تكفيرهم رغم انعقاد مؤتمر في الكاظمية للنظر في أمرهم.ا

ويمكن من خلال تتبع مسار بعض الشخصيات الوطنية المحورية في تلك الحقبة مثل جعفر أبو التمن، أن نسلط الضوء على تطور الوعي الوطني والسياسي لنخب مجتمعية عراقية واسعة منذ بوادر دخول الحضارة الحديثة الى العراق وخاصة بعد الدستور العثماني في 1908 وخلال الغزو البريطاني للعراق ومقاومة العراقيين للاحتلال حتى تأسيس الدولة العراقية. فيمكن من خلال هذا التتبع الدلالة على أن ثورة العشرين – وهي التي عدّها عالم الاجتماع العراقي المعروف علي الوردي “المدرسة الشعبية الأولى” للعراقيين حول مفاهيم الوطنية والاستقلال – لم تحدث فقط بسبب الاحتلال البريطاني للعراق، وانما أيضاً كتسلسل منطقي لتطور الوعي الوطني للعراقيين.ا

لقد استفاد جعفر أبو التمن من انفتاح المناخ السياسي في العراق ليتفاعل بصورة أكبر مع السلطة العثمانية في بغداد حيث أسس المدرسة الجعفرية في 1908 وانخرط في نشاطات المجتمع المدني البغدادي. فما أن بدأ الغزو البريطاني للعراق في 1914 حتى هبّ العراقيون من مختلف أطيافهم – ومن ضمنهم الحاج داود أبو التمن جد جعفر – لمقاومتهم عبر حركة الجهاد التي وإنْ كان غطاؤها دينياً إلا أن جوهرها كان وطنياً بامتياز حيث لم يسبق للعراقيين أن ساهموا بجدية في أي من حملات الجهاد السابقة للجيش العثماني بل كانوا يعدّون التجنيد وبالاً عليهم. فكان أن انتدبت السلطة العثمانية جعفر ليكون حلقة الوصل بينها وبين حركة الجهاد هذه التي جمعت أكثر من 20 ألف مقاتل من العرب والكرد والتركمان جاءوا من مختلف أنحاء العراق لمقاتلة البريطانيين في البصرة.

وقد عكس الخطاب الذي ألقاه والي بغداد سليمان نظيف بك عند تسلمه الولاية في بداية 1915 مفهوم إقليم العراق الحديث ومجتمعه التعددي عندما خاطب أهل بغداد “يا ابناء العراق النجباء” وبأنه أخذ زمام الإدارة “في ولايات هذا العراق”. كما أشار الى معرفته السابقة بالعراق بانه كان مأموراً على البصرة ووالياً على الموصل. كذلك خاطب سليمان بك المتطوعين في حركة الجهاد بأنهم “الكتيبة المجسمة من الحمية من أبناء العرب والأكراد الذين جمعهم الإخلاص والإيمان”. أما شعبياً، فقد أطلق أهل السماوة هوستهم المعروفة: ثلثين الجنة لهادينا/ وثلث لكاكه أحمد وأصحابه، دلالة على تآخي العرب والكرد في الدفاع عن الوطن المشترك.ا

تعاون أبو التمن بعد سقوط العراق تحت الاحتلال البريطاني مع الناشطين المعارضين للاحتلال عبر الانضمام الى جمعية حرس الاستقلال التي ضمت الوطنيين العراقيين من مختلف أطيافهم وعملت على إقامة الحفلات الدينية التي تجمع بين المولد والتعزية للتحشيد لمقاومة الاحتلال، فأصبح أبو التمن أحد المندوبين لتمثيل الشعب في المطالبة بإستقلال العراق قبل ثورة العشرين. ثم أصبح أحد قادة ثورة العشرين بعد اندلاعها وأحد أهم حلقات الوصل بين ثوار الفرات الأوسط والمعارضة السياسية للاحتلال البريطاني في بغداد ما أدّى الى نضوج مطالب ثوار العشائر في الفرات الأوسط وارتباطها بالمطالب الوطنية ضد الاحتلال البريطاني.ا

إن الصلة الوثيقة بين ثورة العشرين وتأسيس الدولة العراقية هي واحدة من أهم محاور السردية الوطنية البديلة. فقد طالبت الثورة بتأسيس دولة عراقية مستقلة بقيادة أحد أنجال الحسين بن علي ملك الحجاز، كما لجأ عدد من قادة الثورة إلى الحجاز وعادوا إلى العراق مع الأمير فيصل عند تتويجه. لقد أقرت الوثائق البريطانية بأن ثورة العشرين وخسائر البريطانيين المكلفة فيها كانت السبب الرئيس في تكليف برسي كوكس أن يمضي قدماً في إنشاء حكومة وطنية في العراق تمهد الطريق لتأسيس الدولة العراقية برئاسة الملك فيصل، فيما كان ويلسون حاكم بريطانيا في العراق قبل الثورة يسعى لأن تحكم بريطانيا العراق بصورة مباشرة على الطريقة الهندية.ا

إن النخب العراقية ومن مختلف الأطياف التي أسست وقادت الدولة العراقية ومجتمعها المدني لم تأتِ من فراغ بل كانت فاعلة في الكيان الوطني العراقي ضمن الدولة العثمانية كمشاركين في الحياة السياسية وكضباط في الجيش العثماني وكمثقفين من ناشطي المجتمع وكرؤساء للعشائر.ا

إن هذه السردية الوطنية بالإضافة الى موضوعيتها ورصانتها تاريخيا وأكاديمياً، فهي تبرز مشاركة مختلف أطياف المجتمع العراقي في العمق التاريخي للدولة العراقية الحديثة، وتتلاءم مع مفهوم الشراكة بين العرب والكرد في الوطن العراقي والذي أصبح فيما بعد أحد أهم أركان الدولة العراقية في عهدها الجمهوري، كما سيتم التطرق إليه في الأجزاء القادمة من هذه المقالة.ا

Facebook
Twitter