التفاصيل

المشروع الوطني لثورة تشرين والإنتخابات القادمة

فراس ناجي / سيدني

يشكل الواقع العراقي المتشظي تهديداً حقيقياً لإنجازات ثورة تشرين ومآلاتها المستقبلية، خاصة مع قرب إجراء الانتخابات القادمة

فالقوى التشرينية الشبابية منقسمة سياسياً بين مقاطعي العملية السياسية، وأولئك الذين يتحالفون مع السياسيين الانتهازيين، أو الذين ينجذبون الى الشعبويين ممن يختزلون مطالب ثورة تشرين في العداء لإيران والتخلص من عملائها في السلطة، في حين يحاول آخرون من التشرينيين أن يؤسسوا قوى سياسية جديدة لتكملة مسيرة الثورة.

وفي الوقت نفسه انكشف تضاد التيار الصدري السياسي مع ثورة تشرين عبر تحوله نحو ترميم البيت الشيعي وابتعاده عن التوافق مع القوى الوطنية المدنية شركائه السابقين في تحالف سائرون. أما القوى المدنية الوطنية وهي الأقرب مفاهيمياً وقيمياً من ثورة تشرين، فلا يزال خطابها السياسي غير ناضج، فلا هي تجذب التشرينيين بعاطفتهم ولا هي تكسبهم عبر خطة طريق واقعية وواضحة. فكيف يمكن حماية منجزات الثورة من القوى المضادة؟ وما هي الأولويات لقوى الثورة وجماهيرهم الساندة من أجل استمرار الثورة في مسيرتها باتجاه تحقيق أهدافها الراسخة في وعي الغالبية من العراقيين؟

نحو مشروع وطني ذو أولويات محددة 

إن القصور في الرؤية السياسية لثورة تشرين بالنسبة للسياسات المطلوبة لتحقيق أهدافها يمكن أن يعرّض الثورة الى مخاطر جدية، إذ يمكن أن تستغل القوى السياسية المضادة والانتهازية هذا القصور بحيث ترضي مشاعر بعض جماهير المحتجين بإجراءات محدودة بينما تعمل على تنفيذ أجندتها الخاصة ما يمكن أن يُدخل العراق في نفق مظلم آخر. كما إن تبنّي أطراف محسوبة على حركة الاحتجاجات الشبابية لرؤية سياسية ضيقة أو جدالية يمكن أن يثير الانقسام بين القوى الداعمة للثورة وجماهيرها ويعزز من تأثير القوى السياسية المضادة والانتهازية. 

لذلك تحتاج ثورة تشرين الى رؤية سياسية تمثل مشروعاً وطنياً يمكن أن يلتف حوله جمهور واسع من المساندين من أجل بناء تحالف انتخابي قوي تعبر به الثورة من خلال الانتخابات القادمة نحو تحقيق الهيمنة الثقافية التي تمثل الضمان الحقيقي لحماية مسيرة ثورة تشرين باتجاه تحقيق أهدافها.

من هذا المنطلق تطرح هذه المقالة رؤية للمشروع الوطني لثورة تشرين يمكن أن تشكل أساساً للبدء في مناقشة هذا الموضوع المهم، وخاصة من قبل القوى التشرينية والأحزاب المدنية الوطنية ومنظمات المجتمع المدني، بما يؤدي إلى رفع سقف مطالب ثورة تشرين من جهة وفرز القوى السياسية الانتهازية من جهة أخرى. 

تستند هذه الرؤية على ثلاثة ركائز أساسية آخذين في الاعتبار أهداف ثورة تشرين في التحول نحو مجتمع عراقي مستقر ودولة ذات سيادة وطنية تعمل لخدمة مصالح العراقيين بدون تمييز. وهذه الركائز تتضمن: دولة سيادية وطنية، ونظام لا مركزي اتحادي، مع الحفاظ على الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة. 

فإذا ما سار العراق باتجاه هذا المشروع الوطني الذي يوفر له مجتمعاً مستقراً سياسياً ودولة فاعلة، فذلك يحقق له الأساس المطلوب لإكمال حل بقية مشاكل العراق المتصلة ببعضها، مثل الفساد الإداري وتطوير الاقتصاد وتحسين الخدمات ومعالجة المشاكل الاجتماعية.

الدولة السيادية الوطنية 

يعاني نظام 2003 السياسي من خلل بنيوي متصاعد في السيادة منذ تأسيسه، إذ وصل حالياً الى مديات تقوضت فيها سلطة الدولة عبر الفشل في حماية المواطنين من الاعتداءات، وفي فرض القانون، ما يهدد السلم والاستقرار المجتمعي. ويمكن اعتبار تمدد نشاط الجماعات الميليشياوية تحت مظلة الحشد الشعبي إستخباراتياً واقتصادياً وقتالياً أهم التهديدات لسيادة الدولة كسلطة رديفة ومنافسة للدولة ولا تمتثل لأوامرها. 

والأمثلة كثيرة حول تحدي بعض هذه الجماعات المسلحة للأوامر القضائية باعتقال أفراد منهم، واستخفافهم وازدرائهم لرمزية الجيش العراقي والقائد العام للقوات المسلحة، بالإضافة الى أعمال عنف وقمع بدون محاسبة ضد مواطنين ومؤسسات معارضة لهذه الميليشيات. وادّى ذلك بفصائل الحشد الشعبي التي لا تتقبل هذا التحدي لسلطة الدولة – مثل “حشد العتبات” – الى العمل على ارتباطها المباشر بالقائد العام للقوات المسلحة للحفاظ على سمعتها ولإبعاد هذه الفصائل عن “كل ما يلوث توجهاتهم ويحرف مساراتهم”.

ولأنه لا يمكن تحقيق مجتمع مستقر أو اقتصاد مزدهر أو علاقات خارجية متوازنة بدون احتكار الدولة المطلق لإستخدام العنف داخل حدودها، لذلك فأحد الحلول لهذه التحديات هو العمل على إعادة هيكلة الحشد الشعبي ليكون تحت سلطة الأجهزة الأمنية الوطنية مع دمج قواته المقاتلة بالقوات الأمنية الاتحادية وطرد مجاميع المقاتلين الذين يشك بولائهم للدولة العراقية وعدم اطاعتهم للأوامر العسكرية، بالإضافة الى تجريم والمعاقبة الشديدة لأي تحدي لسلطة الدولة لردع المجموعات المسلحة والعشائر غير المنضبطة.

أما بالنسبة الى التدخل الخارجي، فقد أصبحت موافقة ايران وامريكا على الحكومات العراقية عند تشكيلها أحد الأعراف السياسية للنظام السياسي الحالي، بينما تستبيح القوات التركية الأراضي العراقية بدون رادع. ويمكن معالجة ذلك عبر العمل على التوصل الى اتفاقيات شفافة مع كل من ايران وتركيا وامريكا لحماية المصالح المشروعة لهذه البلدان في العراق مقابل التعهد بعدم خرق سيادة العراق والتجاوز على حدوده والتدخل في شؤونه الداخلية. وفي نفس الوقت يتم تشريع وتنفيذ قانون منع مزدوجي الجنسية من تسلم مناصب عليا في الدولة مع تشريع وتنفيذ قانون لتجريم التعاون غير القانوني مع القوى السياسية الخارجية.

نظام لامركزي اتحادي

لم يكن تبني النظام اللامركزي الاتحادي لحل القضية الكردية في العراق هو فكرة طارئة أو نتاج ظروف معينة، بل هو نتاج تطور فكري عضوي لفئات متعددة من الشعب العراقي في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، أقرّت بمفهوم الشراكة في الوطن بين العرب والكرد مع الاعتراف بالحقوق القومية لكليهما كبديل لمفهوم الهوية العربية الأحادية للدولة العراقية التي أسسها الاحتلال البريطاني بعد الحرب العالمية الأولى.

ورغم ذلك، لم تعمل جميع أنظمة الحكم الجمهوري في العراق والتي اعترفت بحقوق الكرد القومية على تطبيق حقيقي لنظام لامركزي اتحادي يضمن للكرد ممارسة حقوقهم القومية بل استخدمت العنف في قمع الحركات الكردية المعارضة التي كانت تطالب بهذا النظام.

فالمعضلة في علاقة إقليم كردستان بالدولة العراقية في نظام 2003 هي عدم تأسيس هذه العلاقة على أسس اتحادية سليمة بل كانت على أسس تعكس واقع عدم التوازن بين الإقليم شبه المستقل منذ 1991 وبين دولة المكونات الضعيفة والفاقدة للسيادة وقت كتابة الدستور العراقي في 2005. وظلت هذه العلاقة لحد اليوم تتراوح حسب واقع التوازن بين الطرفين بلا ضوابط دستورية واضحة بل يتم تأجيل الخلافات دون حسمها حسب اتفاقات وقتية تؤدي بالتالي الى تراكم للمشاكل تنذر بالانفجار حيث يتم استغلالها عاطفياً بين الحين والآخر لتغليب طرف على آخر.

لذلك يكون الحل لهذه المشكلة عبر إعادة تأسيس العلاقة بين الطرفين على أسس فيدرالية سليمة تكون الغلبة فيها للحكومة الاتحادية فيما يتعلق بإدارة الاقتصاد الوطني والدفاع عن حدود العراق الخارجية وإدارة المنافذ الحدودية والسياسة الخارجية للدولة العراقية وتطبيق القوانين الاتحادية في الإقليم. وفي الوقت نفسه تتعهد الحكومة العراقية بحماية ممارسة الكرد لحقوقهم القومية وحصولهم على استحقاقهم من الواردات الاتحادية. كذلك ينبغي إنهاء الصراع حول “المناطق المتنازع عليها” بالتوافق مع جميع فئات مجتمعات هذه المناطق بدون اللجوء الى حسم الخلافات عبر الأغلبية العددية. كما يمكن أن تؤدي أطراف حيادية موثوقة مثل ممثلية الأمم المتحدة دوراً مهماً في عملية بناء الثقة بين حكومة الإقليم والحكومة الاتحادية للوصول الى الاتفاقات الجديدة وتنفيذها على الارض.

إن تأسيس علاقة قوية ومستدامة بين إقليم كردستان والحكومة الاتحادية على أسس فيدرالية سليمة مهم أيضاً كنموذج لأي علاقة مستقبلية مع أقاليم لامركزية أخرى قد يتم تشكيلها ضمن الدولة العراقية، وهو أمر ليس بالضرورة سلبي بل يمكن أن يشكل حلاً مستداماً لكثير من المشاكل المناطقية في الدولة العراقية اذا تم حسب نمطٍ يحفظ فاعلية السلطة الاتحادية ومصالح العراق الوطنية.

الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة

لقد أثبت نظام 2003 النيابي مع انتخاباته الدورية فشله في تأسيس عملية سياسية ديمقراطية سليمة يكون أحد أطرافها في الحكم بينما يكون الطرف الآخر معارض له، يحاسبه ويسعى ليكون بديلاً عنه. فقد كانت جميع الكتل الرئيسية تحكم عبر المحاصصة المكوناتية عن طريق تقاسم السلطات والامتيازات بينهم ما أدّى الى تأصيل الطائفية وانتشار الفساد المالي والإداري وتشريع قوانين تخدم المصالح الفئوية وليس الوطنية.

بالرغم من ذلك، يبقى النظام الديمقراطي والتداول السلمي للسلطة هو ركن أساسي من أركان استقرار المجتمع العراقي، فالتجربة التاريخية في العراق الحديث تشير إلى أن جميع فئات المجتمع العراقي دفعوا ثمناً باهظاً بسبب احتكار السلطة من قبل فئات مجتمعية ضيقة وبسبب ضعف تمثيل مجتمع الدولة السياسي للمجتمع العراقي الأوسع. لذلك لا يكمن الحل في الغاء تجربة النظام النيابي، بل في تعديله باتجاه حل الإشكالات التي فيه.

فالنظام شبه الرئاسي الذي يجمع بين خصائص النظام البرلماني النيابي والنظام الرئاسي – مثل النظام السياسي في فرنسا – يمكن أن يمثل حلاً مناسباً. فرئيس الدولة الذي يُنتخب مباشرة من الشعب له صلاحيات واسعة مثل الموافقة المشروطة على قرارات الحكومة بالإضافة إلى الحق المشروط في حل البرلمان وفرض قانون الطوارئ واستفتاء الشعب في الأمور المهمة، في حين تبقى الحكومة تمثل الأغلبية البرلمانية مع صلاحية عزل رئيس الحكومة أو الوزراء. فيمكن أن يمثل التحول نحو هكذا نظام سياسي في العراق خطوة باتجاه توازن جديد بين سلطة الرئيس الموسعة وسلطة البرلمان المحددة ما يتيح استقلالاً أكثر للسلطة التنفيذية عن السلطة التشريعية وبالتالي تنفيذ برنامج حكومي ببعد وطني بعيد عن المحاصصة وتقاسم السلطة.

وإذا كانت هذه الرؤية للمشروع الوطني لثورة تشرين لا تتناول أموراً مهمة مثل محاكمة قتلة المتظاهرين ومحاسبة كبار الفاسدين ومعالجة الوضع الاقتصادي السيء وتحسين الخدمات – على أهمية هذه المواضيع ومحوريتها للشارع العراقي–، فذلك ينطلق من أن أية حلول مقترحة لهذه الأمور بدون بسط سيطرة الدولة على المنافذ الحدودية وقدرتها على ردع المعتدين وتطبيق القوانين في كل انحاء العراق هي حلول ترقيعية أو لا حلول، كمحاولات حكومة الكاظمي في تحرير سجاد العراقي من خاطفيه والتي انتهت الى تراجع قوات مكافحة الإرهاب نتيجة تهديد العشائر لهم لمداهمتهم منزل رئيس عشيرتهم.

كما من المهم جداً التأكيد بأن الصراع السياسي الحالي هو بين معسكر وطني يسعى لبناء دولة المواطنة السيادية ضد معسكر اللادولة الذي يحتمي بمبررات طائفية واثنية وسياسية لبقاء دولة النفوذ الخارجي وعملاءهم المحليون. فهو ليس صراعاً أيديولوجياً بين القوى المدنية العلمانية ضد التيارات الإسلامية، لأن هذا هو أقصى ما تتمناه أحزاب الإسلام السياسي لإعادة ترميم قاعدتها الشعبية التي تآكلت بسبب فشلها المدوي في تحقيق أي انجاز لجمهورها منذ 2003. 

من هنا تأتي أهمية تبني المشروع الوطني لقوى الثورة، الذي لا يكتفي بالشعارات والحلول المبهمة، بل يطرح الحلول الواقعية لمناقشتها في الفضاء العام وبناء اجماع الجماهير الساندة للثورة حولها. فلا يكفي طرح شعار حصر السلاح بيد الدولة بدون مناقشة كيفية حل تحديات تعدد ولاءات الجماعات الميليشياوية تحت مظلة الحشد الشعبي كسلطة رديفة للدولة لا تأتمر بأمرها. كذلك لا يكفي شعار انهاء المحاصصة بدون مناقشة تعديل النظام النيابي الحالي ومعضلة الكتلة الأكبر واستغلال النواب لنفوذهم في السلطة التنفيذية. 

آن الأوان للقوى الوطنية العراقية الحقيقية أن يتركوا ترددهم وضبابية رؤيتهم السياسية، والا ستبقى الأحداث تتجاوزهم ويظلون يراهنون على حركة احتجاج قادمة قد يطول انتظارها كما في الربيع العربي او تأتي مُدّمِرة وتأكل الأخضر واليابس.

Facebook
Twitter