التفاصيل

سجايا الموسيقى والغناء وتأثيراتهما في نفوس العراقيين قديماً وحاضراً

الموسيقى والغناء

لون من ألوان السمو الإنساني التعبيري لرموز الأنفعالات المتناسقة المرهفة لعلو الروح السامية، انها ليست مجرد أنغام وكلمات، بل هي وسيلة اتصال اجتماعي وتربوي ووطنيتنتعش لها النفوس حينما يتم الجمع بين الكلمة والصوت، فهي تعمل على إدخال البهجة والحزن وحب الوطن على النفوس، وهي تنقل حب الآخرين القريبين لأوطانهم وللعالم الذي يرتبط بهم أو العداء لمن يعمل ضد ارادته

وتوجهاته،  ويسجل التاريخ، أن الفيلسوف اليوناني أفلاطون، قال: «من أراد أن يدرس تاريخ أمه فعليه بموسيقاها».إن تراث العراق الغنائي والموسيقي تراث عريق ومتنوع ، وقد نشأ وتطور منذ نشوء حضارة وادي الرافدين، لذلك فقد تنوعت فنونه الغنائية والموسيقية وطرق أدائها ، ويرجع هذا الغنى في التنوع إلى التفاوت في طبيعة المناطق الجغرافية كالسهول والجبال والصحراء و تعدد لهجاته ، لذلك نرى تنوعاً في النص واللحن والإيقاع، ولهذا تعود رحلة الموسيقى مع الإنسان إلى أزمان قد تسبق الحضارات القديمة، التى تظهر الآلات الموسيقية جلية وواضحة في آثارها وأطلالها.  
 انعم علينا التاريخ  بمدوناته  منذ قدم الحضارات  صوراً ابداعية  لرقي فكر شعب حضارتي سومر وبابل  في بلاد الرافدين التناغمي” للهارموني”  بين الفكر والعمل والموسيقى بمختلف الوانه، جاء ذلك من خلال اكتشافات منقوشة على الألواح من تلك الحضارة، تبلغ المئات عداً وهي تعرض لنا تنوعاً في الأبواب والنماذج، ونتعرف في كتاب “ألواح سومر”، على الرقي والنضوج للأدب من خلال القصص الملحمية والتراتيل والموسيقى، بمصاحبة القيثار أو العود، حيث كانت الحضارة السومرية، سباقة في إبداع أغنيات الحب وأشعاره ، لقد أبدعوا في قصص البطولة، فدبجوا ذلك على شكل صور شعرية تتلى أو يتغنى بها. وتعكس لنا هذه القصص روح العصر ومزاجه، فقد كان الشعراء

التابعون للبلاد، وهم مدفوعون بالدوافع الشديدة الناشئة عن الطبقة الحاكمة لنيل الشهرة، ينظمون القصائد القصصية أو الأغاني التي تشيد بأعمال المغامرات ومآثر البطولة الخاصة بالملوك والنبلاء، وكان الغرض الأول من أناشيد الملاحم، أن تكون أداة تسلية في الأعياد والمآدب الكثيرة التي تقام في البلاط. وكانت تنشد على الأغلب، كما وجدت في اسطنبول قطعة على شكل لوح صغير مسجل تحت رقم 2461 ، مدون عليها القصيدة الشعرية التي تشيد بالجمال والحب، ومن أبيات موزونة، لهذا فأن فن الموسيقى نشأ في بابل وقد بلغ درجة رفيعة في الاتقان ضمن طقوس المعابد مقرونة بنغمات عريقة في القدم، فكان لكل مدينة معابدها، نعم والف نعم يعود تاريخ الموسيقى في العراق إلى عهود قديمة بقدم العراق نفسه.

وتطورت الموسيقى عبر الحقب المتعددة وجاء المقام كغناء تراثي عراقي كلاسيكي يغلب عليه الارتجال والسمع والنطق بالحنجرة  وفيها التنقل ببراعة بين مختلف المقامات الموسيقية المعروفة، وعادة ما يغنى بمصاحبة الآلات الموسيقية إذا كانت المناسبة طربية، أما إذا كانت المناسبة دينية فعادة ما تسقط الآلات الموسيقية ويبقى فقط الدف.

صدر كتاب يبحث في الموسيقى العربية والمقام، هو”الدر النقي في علم الموسيقي” ألفه الشيخ أحمد عبد الرحمن القادري الرفاعي الشهير بالمسلم الموصلي سنة 1150حققه وقدم له وعلق عليه المرحوم الشيخ جلال الحنفي، وكان هو الكتاب الأول في سلسلة كتب التراث الذي صدر عن وزارة الثقافة والإرشاد العراقية “مديرية الثقافة العامة وطبع في مطبعة دار الجمهورية عام 1964″واعتبر رسالة مهمة في الأنغام والمقامات العراقية وتفرعاتها، كما قال المرحوم الشيخ جلال الحنفي في مقدمته للكتاب(فلقد أتاح لنا المؤلف بما عدده للمقامات والأنغام من الأسماء المترادفة والمتعددة شيئاً من الحال نهتدي به بعض الاهتداء إلى حقائق ضائعة في مسألة المقام العراقي…ويضيف المرحوم الشيخ جلال الحنفي:

أما ما ورد في غضون البحث في مسائل البروج والطبائع وبعض الأقاويل الأساطيرية فإن ذلك لا يطعن في الكتاب ولا يقلل من أهميته، فقد عجت كتب الموسيقى العربية منذ القرن الثالث الهجري بمباحث الفلك والنجوم والطبائع والاستقصاءات والعناصر، فربطت بين الموسيقى وبين الأفلاك والعوالم العلوية ربطاً محكماً.  تضمن الكتاب على مقدمة وثلاث أبواب وخاتمة:

المقدمة: في بيان أصل المقامات ومن أين جاءت تسمية الموسيقى.
الباب الأول: أن كل مقام كان لحن نبي من الأنبياء.
الباب الثاني : دائرة المقامات وتعلقها بالبروج والأفلاك
الباب الثالث: طبائعها وما يوافقها من الأحرف حال قراءتها.                                       
الخاتمة، ما يوافق كل مجلس منها حسب طبائع المستمعين وكيفية قراءتها والتنقل من مقام إلى مقام وبأي منها يكون الابتداء والاختتام.
 ولهذا أن مقام البيات يقرأ لتفريج الهم، والحسيني يقرأ في حالة الترفه، والرست يقرأ للوقار، والأوج  يقرأ حين استعادة الذكريات، والعجم يقرأ حين يكون الجو حماسي، والصبا يقرأ في حالات الحزن والشجن، والحجاز يقرأ في وقت الحجيج وفي الآذان.

برز اليهود العراقيون في المقام، لا سيما في اطار العزف على الآلات، وفي مدونات  الموسيقى العراقية كان أكثر من يعزف الآلات هم اليهود لحين أعوام الخمسينات فقد غادر الكثير منهم الى اسرائيل، وفي التلحين برز بعض منهم.
و كمثال يقتدى به في سلم تاريخنا الموسيقي والغنائي، كان العصر “الذهبي” من الدولة العباسية، و بخاصة في عصر أمير المؤمنين الخليفة المأمون، فكان للغناء و الموسيقى أثر كبير على العصر العباسي الزاهر، لقد أشار الفنان “سامي عابدين” في كتابه الغناء في قصر الخليفة المأمون، و أثره على العصر العباسي في 10 فصول شملت الغناء العربي في عصر ما قبل الإسلام إلى عهد الدولة العباسية، حيث سلط الكاتب الضوء على المواقف الإيجابية جداً للخليفة المأمون تجاه الغناء و الموسيقى، بل و ذكر الكاتب ولع الخليفة بهما، كما و ذكرَ ندوات إسحاق الموصلي في ديوان قصر الخليفة،.. و كذلك ندوات إبراهيم بن المهدي الغنائية في نفس القصر و العصر، كما أن زرياب قدم روائعه في ذلك العصروابتكاره للموسيقى الاندلسية.

وتزامنا مع التفتيش عن الأغنية ومحيطها تبرز امامنا موسيقى وغناء البدو وفيها  أنغام السويحلي والموال، منذ القدم وقبل الأسلام تعلموها بفطرتهم وفيها احساسهم  برفقة  الربابة أو الناي اوالمطبج ، اصواتهم وخلجان حنجرتهم المتسمة  بنبرات الحب والحزن والمغامرة والصيد والحنين وهي منطلقة من بطون اشعارهم او اشعار من سبقهم، وفي عصرنا كان هناك عمالقة من تغنى وابدع فيها وهي ماثلة في مخيلتنا واحساسنا كلما استمعنا اليها.  
ولأن الأغنية الوطنية تلهب حماس الجماهير ويسجل التاريخ قول الشاعر الإغريقي هوميروس: (عندما تدرس تاريخ أمة، فعليك بدراسة فنها الوطني  فهو مقياس للنهضة والتحرير).

أن الأغنية الوطنية العراقية المرتبطة بمفهوم المواطنة شكلت إطارا لمضامين إنسانية ووطنية مفعمة بالحماس وروح الغيرة والشهامة لاذكاء جذوة الحماس والتعبئة ونشر الثقافة الوطنية في مختلف أوساط الشعب من أجل نصرة قضايا الوطن وقضايه العادلة ووحدته وهي قيم نبيلة.
 وفي كل الاوقات كانت وما زالت الاغنية وسيلة هامة لتوجية وتعبئة الشعوب فمن خلالها تشكل وعي ومفاهيم الكثير من ابناء الوطن الواحد وتشكلت طبيعة العلاقات الاجتماعية بينهم فقد ساهمت الاغنية بشكل فعال في تعبئة الشعب ضد المستعمر او المحتل كما حدث في ثورة العشرين كذلك حمست الشعب أثناء الحرب العراقية الأيرانية، وعندما يتدنى مستوى الفن ومعه الموسيقى والغناء تختلف اخلاقيات المواطنين تاثرا بهذه الفنون، كلنا يتذكر اغنيات خالدة منها “يا كاع ترابج كافوري، “ومنصورة يابغداد” ضلت ولازالت تصدح حتى في الافراح والأعراس، ولهذا فأن الشعب يغني للعراق،  وأنه عندما تبقى في ذاكرته أغنية لزعيم أو رئيس فإن هذا الموقف الاستثنائي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بلحظات مهمة ونادرة في تاريخه عندما يصبح الزعيم او الرئيس رمزً للوطن، وهنا يصبح الأصل في الوطن.

عاش العراق منذ بد نشوء الدولة العراقية وحتى مجىء الأحتلال ذروة الأبداع الشعري والموسيقي والغنائي على ايدي عمالقة  من الفنانين والشعراء يصعب علينا تسميتهم لكي لا ننسى أية قامة منهم والقارىء هو من يستطيع تدوينهم، الذين أوجدتهم بيئة وظروف انفتاحية على الثقافات الأخرى وتبلورت نخبة من المتميزين في التجديد وأسمائهم عالية سيذكرها المدونون دوما وهم الذين أنزلوا الفن من عليائه الى الناس ومعاناتهم الاجتماعية والسياسية وشوقهم وحنينهم وحبهم، واتذكر كيف كانت وزارة الأعلام والثقافة ترسل عمالقة الغناء والموسيقى والشعر والفرق الموسيقية والفلكلور لكافة بقاع العالم لحمل رسالة الفن العراقي، ولديمومة الأتصال مع الجالية العراقية والعربية، والآن لا نسمع مرة واحدة عن تلك الممارسات.

كما كانت للنساء العراقيات مكانة مهمة في إغناء العراق باصواتهم الجميلة والوخيمة في الأداء والحضور وقسم منهم أجاد قراءة المقام والبوذية  والشعر، هن قامات أصدحوأ بصوتهم ووصلوا قمة المجد والعراق ولاد وسينجب الكثير منهم.

خلق الله العراقيين بكل فئاته وأديانه طروبيين، زاملت في حياتي العلماء والسفراء والمثقفين وعايشتهم وكل.. يستمع إلى النغمات فتمس قلبه ووجدانه واحساسه وغريزته، وفيها يودع مشاعره وأحاسيسه الحزينة والسعيدة على السواء، فهو في الفرح يغني وأيضا في الحزن يغني، وهذا يدلل أن الموسيقى والغناء مغروسة فيه من القدم. 

لمعظم الاغاني العراقية والمقامات والبدويات والريفية المنبعثة من دواوين الشعراء وقصائدهم التي لها بصمات النغم لملحنين حكايات  تدمع من يستمع اليها فيها مشاعر واحاسيس عاطفية تطرب النفوس لحناً ومعنى وما ألأنس إلا مصاحبة  في دروب عشق الحياة  والشوق يكون في اعماقهم، فبالموسيقى و بالغناء تنتعش النفوس و تسمو الأرواح، و بخاصة حينما يتم الجمع بين الغناء الجميل و الموسيقى الملهمة و الأبيات الشعرية الجميلة، و الحنجرة الصادحة.
و حينما يتضاءل دور الموسيقى والغناء تضمحل الحضارة، و تضمر القلوب، و تتصحر النفوس. لقد جاءت مقولة عن ابن خلدون بأنأحد مؤشرات سقوط الحضارات كان تدني الحس الغنائي الموسيقى في المجتمع“.. وهذ ما يحصل في بلدنا فالموسيقى والغناء أصابته العلة و أصبح العراق خالي من عمالقة الغناء والموسيقى والشعراء بعد هجرتهم، منهم من توفى، ومنهم من حصل على النجومية، ومنهم من يعيش الكفاف في بلاد الغربة، وأما الشباب فأنهم يلجأون الى برامج ذا فويس وبرامج المواهب عسى ان يحصلوا على من يصقل مواهبهم، وفي داخل العراق تحطمت البهجة في صدورهم والفرحة في شفافهم وبالتالي بدأو يفقدون الانس والحب والحنان ونسيان انسانيتهم، في عالم تجتاحه  قيود التدين السياسي، ومن الله التوفيق.
سرور ميرزا محمود

Facebook
Twitter