فراس ناجي / سيدني ـ ج٣ ــ ٤
تناولت الأجزاء السابقة من هذه المقالة نشوء إقليم العراق العثماني وتأسيس الدولة العراقية لحد الغزو البريطاني الثاني في 1941 كجوانب أساسية لسردية وطنية بديلة تهدف لبناء الذاكرة العراقية التاريخية من أجل إعادة التأسيس لهوية وطنية جامعة، إذ يمكن أن يساعد ذلك في العبور من مرحلة التصارع المكوناتي منذ 2003 الى مرحلة التكامل والتعايش السلمي، خاصة مع انبثاق الاحتجاجات الشعبية الشبابية في تشرين الأول 2019. ويكمّل هذا الجزء من المقالة جانباً أساسياً آخر لهذه السردية الوطنية البديلة.ا
العراق الملكي (1941-1958) نضوج الحركة الوطنية في المعارضة
يرى الكثير من المثقفين والباحثين العراقيين والأجانب أن المجتمع العراقي منقسم عمودياً إلى عرب سنّة وعرب شيعة وكرد بهويات راسخة وأجندات متنافسة، فلا يمكن تحقيق التوافق بينهم إلا عبر المحاصصة لأحزاب وقوى سياسية تمثل هذه المكونات في العملية السياسية مثلما يجري في العراق منذ 2003. غير أن تاريخ العراق في الأربعينيات والخمسينيات يشير إلى أن الاختلاط الاجتماعي بين فئات وأطياف المجتمع العراقي والتفاعل بين القوى السياسية وما نتج عن ذلك من تلاقح فكري على مدى الفضاء الوطني العراقي، كل هذا أدّى الى هيمنة هوية وطنية عراقية متحررة من سيطرة القوى الأجنبية ومن تلاعب السلطة الحاكمة على أساس التآخي العربي الكردي والإعتراف المتبادل بالحقوق القومية لكلا الشريكين في الوطن الواحد، ضمن هوية عراقية جامعة لوطن العرب والكرد وباقي القوميات المتآخية تكون فيها السيادة للدولة العراقية الواحدة التي تعمل لصالح جميع أبناء المجتمع المتساوين على أساس المواطنة بحقوقها وواجباتها.ا
كان العراق بعد الحرب العالمية الثانية يمر في مرحلة تحول اجتماعي واقتصادي وسياسي، ما أدى في النهاية الى الاصطدام بين القوى التي كانت تقود عملية التغيير ضد قوى “الحرس القديم” التي استماتت في التشبث في السلطة ومنع عجلة التغيير من الدوران، فكان انتصار قوى التغيير في 14 تموز 1958 الذي مثل محطة فارقة بين نظامين ورؤيتين متقاطعتين للعراق من الأوجه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. من هنا تتبنى هذه المقالة مفهوم الثورة لعملية التغيير في 14 تموز 1958، لأن الانقلاب العسكري كان فقط أداة التغيير بينما ساهمت قوى التغيير بكل مجاميعها في التحضير للثورة فكرياً وثقافياً وسياسياً، وكذلك شاركت هذه القوى في بناء النظام السياسي البديل بعد انتصار الثورة.ا
اجتماعياً، شهد العراق تحولات عديدة أهمها الزيادة المطردة في المدارس الحديثة وأعداد المتعلمين خاصة في مراكز المدن والأقضية الرئيسة وانخراط أكبر للشيعة والكرد في الفضاء الوطني. كما نشأ وبدأ في النضوج جيل جديد تربى على وعي وطني يتمحور حول التخلص من السيطرة البريطانية ويعدّ النخبة الحاكمة وخاصة نوري السعيد وعبد الإله عملاء لبريطانيا ضد مصالح العراق الوطنية. كذلك انقسم المجتمع العراقي اقتصادياً الى طبقتين رئيسيتين: الأقلية وهم الطبقة المستفيدة من النظام والتي تزداد ثراءً من النخبة الحاكمة ورؤساء العشائر وكبار رأسماليي البلد، والأغلبية من سواد الشعب والذي كان يزداد فقراً والفاقد للخدمات والإمتيازات على الرغم من تطور أجهزة الدولة، وإزدياد الدخل الوطني وزيادة عدد المتعلمين. فقد أدى هذا الانقسام الجيلي والطبقي الى انقسام سياسي حاد وصراع طاحن بين النخبة الحاكمة للنظام الملكي والأحزاب المعارضة اليسارية المتعاطفة مع عامة الشعب مثل الحزب الشيوعي وحزب الشعب والحزب الوطني الديمقراطي، ثم انضمت الى هذه المعارضة الأحزاب القومية العربية والكردية بسبب قمع النظام الملكي لها، حيث تبنت هذه الأحزاب مبادئ التحرر الوطني والعدالة الاجتماعية بالإضافة الى مبادئها القومية.ا
من المهم التأكيد هنا على أن هذا الانقسام السياسي كان افقياً وعابراً للطوائف والقوميات، فلم يكن السنّة العرب يمثلون سوى 15% من الإدارة العليا لحزب نوري السعيد (حزب الإتحاد الدستوري) في 1949، بينما كان تمثيل الشيعة العرب 50% والكرد 26%. وكذلك كان الكرد وأقليات المجتمع العراقي ممثلين بصورة كبيرة في الأحزاب اليسارية وخاصة الحزب الشيوعي العراقي، فيما كان الشيعة ممثلين بقوة في قيادة الأحزاب العروبية مثل حزب البعث وحزب الاستقلال.ا
كان الصدام السياسي بين الطرفين تدريجياً لكن متصاعداً، فكانت احتجاجات عمال السكك في 1945 وكاوورباغي في 1946 وعمال ميناء البصرة والنفط في 1948 و1952 و1953 وكذلك احتجاجات الطلبة في وثبة 1948 وإنتفاضة 1952 والإحتجاج على العدوان الثلاثي على مصر في 1956. ولعل أبلغ توصيف لوضع المجتمع العراقي في تلك الفترة عكسه الإنتاج الثقافي الآتي من رحم هذا المجتمع نفسه كقصيدة الجواهري العصماء “أخي جعفر” التي رثى فيها أخيه طالب الحقوق القادم من دمشق ليُقتل عند مشاركته في واقعة الجسر (والذي سمَي لاحقاً بجسر الشهداء) في وثبة 1948، وفيلم “سعيد أفندي” عن قصة “شجار” لأدمون صبري، من إخراج كاميران حسني وبطولة يوسف العاني الذي أنتج عام 1957 والذي صوّر الحالة البائسة لمتعلمي الطبقة المتضررة في ذلك الوقت.ا
لقد أدّى الاستقطاب السياسي الحاد الى تقارب أحزاب المعارضة وتعاونها في العمل المشترك من أجل التغيير السياسي وإقصاء النخبة الحاكمة عن السلطة لتنفيذ ولو القاسم المشترك من برامج الأحزاب السياسية المعارضة. ولم يكن هذا بالأمر التلقائي أو من السهولة بمكان بسبب التقاطع الأيديولوجي بين الأحزاب المعارضة، وانما حدث بصورة تدريجية، ونتيجة تأكّد أحزاب المعارضة من انغلاق جميع الطرق الممكنة للتغيير السياسي عبر الوسائل السلمية والديمقراطية.ا
فقد تعاونت أحزاب المعارضة على الأرض من خلال الاحتجاجات الشعبية المتتالية ثم في تحالف الجبهة الوطنية في إنتخابات 1954، بالإضافة الى التحالف بين حزب الاستقلال والوطني الديمقراطي وبدعم من بقية الأحزاب المعارضة في 1956 لتأسيس حزب المؤتمر الوطني. وأخيراً وبعد هذه المحاولات الحثيثة تأسست جبهة الإتحاد الوطني السرية في آذار 1957 من أحزاب الاستقلال والوطني الديمقراطي والشيوعي والبعث العربي الإشتراكي، إذ استمرت الجبهة حتى ثورة 14 تموز وتم من خلالها تحديد مطالب الجبهة السياسية وتبني السياسات المطلوبة لمعالجة القضايا الداخلية والإقليمية والدولية، كما قامت الجبهة بالتنسيق مع اللجنة العليا للضباط الأحرار في التخطيط والتنفيذ للثورة.ا
رافق هذا التعاون والعمل المشترك بين الأحزاب السياسية المعارضة عملية تكوين أجندة مشتركة لبرنامج سياسي مضاد لسياسات النخبة الحاكمة يهدف الى كشف أخطاءها أمام الشعب ويعمل على هدم شرعية نظامها السياسي من أجل تغيير ليس فقط سياسات النخبة الحاكمة، بل التغيير الجذري لنظام الحكم ومجتمعه السياسي. فقد تضمنت عملية صيرورة البرنامج المشترك للجبهة تفاعلاً سياسياً وتلاقحاً أيديولوجياً بين الأحزاب والحركات السياسية المعارضة، فقام مثقفو القوى السياسية بدور طليعي في كسب وإقناع الجمهور بالأفكار الساندة للبرنامج المشترك.ا
وفيما أن البيان التأسيسي لجبهة الاتحاد الوطني لم يتضمن جميع المبادئ الأساسية لبرنامج الجبهة المشترك بل كان مركزاً على مهاجمة حكومة نوري السعيد والخروج من حلف بغداد وإلغاء الاحكام العرفية القمعية في البلاد، إلا أن مبادئ البرنامج المشترك للجبهة تجلّت في برنامج حكومة الثورة وميثاق الجبهة الذي توافقت عليه القوى السياسية بعد نجاح الثورة. فقد تضمنت مبادئ ميثاق الجبهة مفهوم جديد للهوية الوطنية العراقية يرتكز على شراكة العرب والكرد في الوطن العراقي مع إقرار حقوقهم القومية ضمن الوحدة العراقية، بالإضافة الى مبادئ للعدالة الاجتماعية مثل إلغاء الاقطاع وتطبيق الإصلاح الزراعي وتحسين الخدمات لعموم الشعب، ومبادئ سياسية مثل الابتعاد عن هيمنة الغرب وانتهاج سياسية الحياد الإيجابي وتعزيز الحريات السياسية والحياة الديمقراطية في العراق. وفي هذا السياق ستركز هذه المقالة على صيرورة المفهوم الجديد للهوية الوطنية العراقية الجامعة والتفاعل الفكري والتلاقح الأيديولوجي الذي صاحب ذلك بين القوى السياسية المعارضة لحكم النخبة في العهد الملكي.ا
لقد حصلت تطورات كبيرة بالنسبة للقضية الكردية في العراق بعد سقوط الحكم الوطني العروبي في 1941، فمن جهة ازداد تفاعل الكرد الاجتماعي والسياسي مع بقية العراقيين خاصة من خلال تصاعد تواجدهم في العاصمة بغداد، ومن جهة أخرى ثار البرزانيون في 1943-1945 وتبع ذلك مساهمة الملا مصطفى البرزاني في تأسيس “جمهورية كردستان الديمقراطية” في مهاباد/ايران التي سقطت تحت ضربات الجيش الإيراني في 1946. فتم تأسيس الحزب الديمقراطي الكردي (وهو النسخة الأولية للحزب الديمقراطي الكردستاني) في 1946، ودعا في برنامجه الى نظام إتحادي في العراق على أساس الأخوة العربية الكردية والكفاح المشترك ضد الإستعمار وحلفائه المحليين. كما ساهم الحزب الديمقراطي الكردي بقوة في إحتجاجات الوثبة في 1948 واشترك في لجنتها التنسيقية، فيما صدرت في بغداد بعد الوثبة أول مجلة سياسية باللغتين العربية والكردية (نزار) قامت بالترويج لشعار الأخوة العربية الكردية ومفهوم العراق كوطن للقوميتين الرئيسيتين العرب والكرد. غير أن الدور الطليعي لليسار العراقي كان هو العامل الحاسم في انتشار مفهوم الشراكة في الوطن بين العرب والكرد والإعتراف بالحقوق القومية للكرد في العراق عبر التنظير والترويج والدفاع عن هذا المفهوم من خلال نتاجهم الفكري والثقافي.ا
ويعدّ كتاب عزيز شريف “المسألة الكردية” الذي نشر في 1950 الأكثر تأثيراً وريادةً في الفضاء الثقافي والسياسي في العراق بالنسبة لقضية الحقوق القومية للكرد، إذ دعا فيه الى الإعتراف بحرية تقرير المصير لكرد العراق عبر الاتحاد الاختياري مع العراق لكن مع حرية الإنفصال وتأليف دولة مستقلة. ثم تتابع بعد ذلك توافق بقية الأحزاب العراقية المعارضة كالحزب الشيوعي العراقي والحزب الوطني الديمقراطي وحزب الاستقلال العروبي على مفهوم الشراكة في الوطن مع الكرد والاعتراف بالحقوق القومية الكردية، فيما صاحب ذلك تحول في مواقف الأحزاب اليسارية باتجاه الإعتراف بالعراق كجزء من الامة العربية التي تسعى الى وحدتها القومية.ا
وهكذا أصبح مفهوم الهوية الوطنية العراقية موضوعاً فارقاً بين رؤيتين: الرؤية الرسمية للنظام السياسي الملكي الذي فرضته بريطانيا على العراق بهويته العربية وعدّ الكرد كأحد الأقليات، مقابل رؤية حركة المعارضة السياسية للنظام الملكي والتي تبنت الشراكة في الوطن بين العرب والكرد والاعتراف بالحقوق القومية لكلا الشعبين. ولعل أبلغ دلالة على هذا الانقسام هو تبني حزب المؤتمر الوطني – وهو حزب موحّد يضم حزب الاستقلال العروبي والوطني الديمقراطي اليساري – لمفهوم شراكة العرب والكرد في الوطن، في حين إن وزير داخلية حكومة نوري السعيد الذي منع تأسيس هذا الحزب على أساس تبنيه لهذا المفهوم كان كردياً وهو سعيد القزاز.ا
لقد كانت عملية تأسيس جبهة الاتحاد الوطني وصيرورة برنامجها السياسي المشترك بمثابة بناء الكتلة التاريخية – حسب تعبير المفكر الإيطالي الماركسي غرامشي – المضادة لنظام الحكم الملكي الآيل الى السقوط والتي كسبت الى جانبها جمهوراً عريضاً من المجتمع، وبضمنهم تنظيم الضباط الاحرار في الجيش العراقي، وذلك عبر هيمنتها الثقافية على الفضاء الوطني المعارض.ا
فما أن سقط النظام الملكي في ثورة 14 تموز التي بادر اليها تنظيم الضباط الاحرار وساندتها جبهة الاتحاد الوطني، حتى تمثلت أحزاب الجبهة كأغلبية في الحكومة العراقية للجمهورية الفتية، بينما لم يتمثل في هذه الحكومة سوى ثلاثة عسكريين (ولو بأعلى المناصب القيادية). وكذلك تبنت سياسيات النظام الجمهوري الجديد البرنامج المشترك للأحزاب الوطنية المعارضة للنظام الملكي والتي أصبحت مهيمنة ثقافياً على كل من الدولة والمجتمع المدني بعد الثورة وبمن فيهم البعثيون، حيث نوّه سعدون حمادي في مقاله الافتتاحي في جريدة الجمهورية البعثية في أيلول 1958 إلى أن حركة القومية العربية تسعى الى تدعيم الإخوة العربية الكردية وأن يكون الكرد “شركاء بالفعل لا بالإسم وبالحقيقة لا باللفظ”.ا
وعلى الرغم من أن الريف العراقي كان لا يزال متأخراً نسبة الى المدن، مع عدم نضج الثقافة السياسية لعموم المجتمع وخاصة بالنسبة الى العملية الديمقراطية، وبقاء تأثير سلطة الدين والعشيرة على جمهور غير قليل في المجتمع العراقي، إلا أن النظام العام للمجتمع العراقي كان قد انجز في تموز 1958 محطة مهمة في عملية التحول نحو المجتمع الحديث، حيث سيادة الوعي الوطني وتطور الوعي السياسي على أساس الرؤى السياسية وهيمنة ثقافية لهوية وطنية جامعة على مجمل الأرض العراقية وبرنامج وطني للعدالة الاجتماعية والتحرر الوطني ضد الهيمنة الغربية.ا