التفاصيل

بين كربلاء وهيروشيما في طريق الآلهة لباسم فرات

وظيفة الرحّالة عند العراقيِّ باسم فرات تنطلق من قدرته(( على الأخذ بيد القارئ نحو الأماكن التي يكتبُ عنها))؛ فهو مؤمنٌ ب ((أنَّ أدب الرحلاتِ إن لم يكن جسرَ محبةٍ بين الشعوب ليتعارفوا وإبراز تجارب هذه الشعوب ومميزاتها وخصائصه، فلا قيمةَ، ولا يأتي هذا إلَّا عبر التماهي مع المجتمعات والانصاتِ لنبضها وهواجسها أيضًا)).( طريق الآلهة، ص14).

أيُّها القارىء إنَّ كانت الكتابةَ الرحليةَ معبرةٌ عن تجربةِ السفرِ والتجوالِ في الآفاقِ، فهي شهادةٌ على العصر، وتمثِّلُ تسجيلًا لموقف الرَّحالة من الحياة والكون، عبر وصف الأحداثِ والأمكنة، والعادات، والتفاعلاتِ، والمشاعر الإنسانية في مواقف حياتية متباينة في الوقتِ نفسه.. وضمن نطاق واسع من الجغرافيا غير المؤمنة بالحدودِ، بحيث أنَّ الرحالة لا يقف مكتوف الأيدي؛ بل نراه مُؤثِرًا فيها عبرَ تفاعلهِ الوجدانيِّ مع هذه الأحداثِ والأمكنةِ. ( ينظر: أدب الرحلة وجدلية الآخر في عالم متغير، د. خالد التوزاني، ص10)، فإنَّ تجربة الكاتبِ الذي يدونها بمجّساتهِ والتقاطاتهِ وتلقيه للمكان بمجموعه جغرافيًا، و شعوريًا، وأناسيًّا واجتماعيًا هي المهيمنةُ، هذا ما قررهُ باسم فرات، وهو ما أحاولُ البرهنةَ عليه في مقالتي هذه.

– ايقاد الشموع في العاشر من المحرّم الحرام.

يستحضرُ فرات ايقاد الشموع في العاشر من المحرّم في بلده العراق، وهو في هيروشيما لحضور الحفل الصباحي للذكرى الستين( في عام 2005م) لانفجار القنبلة الذرية، يقول: (( استحضرْتُ طفولتي ومراهقتي وشاركتُ بها بوصفي هيروشيميًّا يحمل عبق تاريخ عريق في وطني العراق… إنها فعاليةُ إيقادُ الشموع ظاهرةٌ تُمارس من قبل الجنسينِ، ولكنَّ النساءَ لهنَّ حصة الأسد، والمدينة تُطفَاُ فيها الأنوار إلَّا اللون الأحمر، نعم يصبح لون المدينة أحمرًا، ففي مساء العاشر من محرَّم الحرام تتحولُ مدينة كربلاء إلى مدينة حمراء، وفي وسط مركزها، في ” المخيم الحسيني” والذي يقعُ جنوبَ غرب مقام مرقد الإمام الحسين بن عليٍّ بن أبي طالب( عليهما السلام)، تتوجهُ الجموعُ إلى هناكَ لإيقادِ الشموعِ في منظر عجيبٍ، إذْ لم أرَ مدينةً في العالم بحسب تجوالي وترحالي لا ضوءَ فيها سوى الضوءِ الأحمر، وأنَّ الشموع تقومُ بإنارةٍ أوسع، هنا يكونُ هذا اللونُ معبرًّا عن حزن النَّاسِ على ذكرى مجزرة الإبادة التي تعرّضَ لها أهلُ بيت نبيِّهم “محمد” ( صلّى اللهُ عليه وآله وسلّم)، فيستذكرون حالَ النساء والأطفالِ بعد مقتل الرجال في نهار العاشر من محرَّم الحرام، لأنَّ هذهِ أول ليلةٍ سيقضيها الضحايا وأجسامهم بلا دفن، في حين النساء والأطفال سيقضونَ “ليلة الوحشة” أو ” ليلة الغرباء” ويتمُ توزيع الطعام ويُطلق عليه ” عشاء الغرباء” هذه التسميات التي يُطلقها أهلُ المدينة)).( طريق الآلهة، ص79).

– غُرباءُ لا عودةُ لهم:

إنَّ ضحايا واقعة كربلاء وضحايا هيروشيما غرباءُ لا عودةَ لهم، وهل يعودُ الموتى؟ يتساءَلُ فرات ليبرز في جوابه الصلةِ بين الواقعتين، رغم البون الزمنيّ والجغرافيّ الواسع بينهماِ، يقول: (( إنَّ ما يقومُ به أهلُ كربلاء وأهلُ هيروشيما في جوهره واحدٌ فكلاهُما يُشعلُ الشموعَ في مساء( قُبيل وبعد الغروب) يوم حدوث الفاجعة الكبرى، فاجعة كربلاء، وفاجعة هيروشيما. تخليدًا لأرواح الضحايا ومعاناتهم، للذينَ تحوّلوا في ذلكَ اليومِ( العاشر من محرَّم) بالنسبة لضحايا واقعة كربلاء، و( السادس من شهر آب “أغسطس”) بالنسبة لضحايا القنبلة الذرية، غرباء لا عودة لهم وهل يعودُ الموتى؟ وتَركوا رغمًا عنهم ذويهم غرباءُ في الأرض يُعانونَ الفَقْدَ والحَزنَ، وكأنَّ إيقادَ الشموع رسالةً إلى الضحايا تُعبِّرُ عن وفاء الأحياء لهم وأنَّهم أحياءُ في قلوبِ محبِّيهم)).

( طريق الآلهة، ص80).

– الذكرى البعيدة:

يؤمن باسم فرات بأنَّه استطاعَ المزاوجة بين أدب السيرة و أدب الرحلات، وأنَّ قراءة منجزه الرحليُّ بوصفه أدب سيرة فقط قد تُسيءُ إليه، مثلما أنَّ قراءته قراءة أدب رحلاتٍ فقط رُبَّما تخذلهُ أيضًا( ينظر: لا عشبة عند ماهوتا، ص5)؛ لهذا تحاصرهُ دومًا ذكريات بعيدة بشخوصها وهو يقدّمُ وصفًا في سرديته الرحلية ، من ذلك وصفه للمهرجان الذي أُقِيمَ في قلعة هيروشيما في الأول من تشرين الأول 2015، بعد شهرين من حضوره الذكرى الستين لفاجعة المدينة، يقولُ: (( كان المهرجانُ يحتوي على أغلب مفردات أو تفاصيل المهرجانات اليابانية من بيع الطعام في أكشاكٍ سريعة البناء… كانت ثمَّةَ مجموعةٌ من الشباب الياباني ترتدي عدَّة الساموراي يتبخترونَ بها، وهم مزهُوونَ بهذا اللباس الذي يمثّل القوةَ والبطولةَ التي عطرَّت التاريخ الياباني. كانَ أحدهم قصيرًا يقفُ عند بوابة قلعة هيروشيما، تكلمتُ معه، وسألتهُ عن إمكانية أنْ أُمسكَ سيفهُ، فناولني إيَّاه… رفعتهُ إلى الأعلى فجاءت ذكرًى بعيدةً في بالي يومَ كنتُ طفلًا وكنتُ أحضرُ مراسيم التعزية الحسينيَّة، وأرى في فجر العاشر من شهر المحرم المسمَّى عاشوراء، سرادقات شباب لباسهم أبيض ويسمى الكفنَ، ويضربون بالسكين الكبير “قامة” وهي تُشبهُ السيف الرومانيَّ على رؤوسهم ويصرخونَ مع الطبولِ” حيدر.. حيدر” ))( طريق الآلهة، ص90).

– طفلٌ تقودهُ أمهُ من حيثُ لا يدري:

من أهم مقومات الرحالة التي شخّصها باسم فرات هي قدرتهُ على الأخذِ بيد القارئ نحو الأماكن التي زارها وكتب عنها.( طريق الآلهة، ص13)، يقول في زيارته لمعرض أكسبو أيتشي في مدينة ناغويا التي وصلها قادمًا من هيروشيما في 2005م، مقولةً جعلتنا نشاطرهُ شعوره بصيّرورته طفلًا :(( أهم ملامح رحلة” أكسبو آيتشي” أنني شعرتُ فيها حقًّا بأنني طفلٌ تقودهُ أمهُ من حيث لا يدري، لكنها علَّمتني أنْ أواظبَ على هذه الطفولة، لأنَّها تمنحني دهشة المكانِ ، وفي رحلاتي جميعها التي تلت رحلة” ناغويا” حتَّى اليوم لا أقرأُ عن المكان و زوجتي تخطط لكلِّ شيءٍ ، وأستفيدُ من دهشتي الأولى بالمكان بتدوينها مضمخةُ بطعمِ هذه الدهشة، نعم أحاول قدرَ الإمكان أنْ أنقلَ دهشتي دهشة الطفل- باسم فرات إلى القرّاء- وكُلي أملٌ أنني نجحتُ ولو في بعض ما نقلتُ لهم))( طريق الآلهة، ص164) . ويبقى أملُهُ محاصرٌ لنا.

جريدة الصباح الجديد، الصفحة 8، الاثنين 18 آب 2025 للميلاد

Facebook
Twitter